عرفناه منذ الصغر بالشيخ صالح، ولقد كان صالحاً بحق. فى هذا الحى الشعبى المتواضع بالقاهرة كان يعش الشيخ صالح
رجل تكاد لا تبدو عليه سنون عمره الستون ، عليه الوقار، بهى الطلعة، وضاء الوجه، يبدو على قسمات وجهه الحسن نضرة نعيم على الرغم من زهده الشديد.
لقد أحببناه جميعاً، صغارا وكبارا. كان شيخى فى المقرأة، عرفته منذ خمسة عشر عاماً مضوا..
جئته غلام صغير لا يكتب.. ولا يقرأ.. ويتلعثم فى نطقةش
تغمدنى بعنايته ومحبته، خصوصا بعد ما علم أنى يتيم الأب.
هذب الله على يديه قلبى، وحفظت على يديه كتاب الله وكان لى نعم الأب، المُعلم، والمُربٍى
طالما تناقل الصغار اقاصيصهم حول الشيخ صالح، وصل البعض منها الى حد الاساطير
ربما شجعهم على ذلك شخصيته الفريدة، وصمته الطويل، و اقامته الذائمة فى زاوية الحى
قالوا عنه جنياً،وقالوا عنه ملاكاً، بل وذهبوا لأبعد من ذلك
عندما اشتد عودى و بدأت اجالس الكبار، علمت أن الاقاصيص حول الشيخ صالح لم تكن لعبة الصغار فقط..
قالت لى أٌمى أن الشيخ صالح جاء إلى حينا ولم يولد فيه، وأنه جاء غريباً وعاش غريباً، وأن له قصة عجيبه فى ولوجه لحينا
جاء الشيخ صالح إلى حينا منذ عقدين، وجدوه مُلقى عند الخرابة بأطراف الحى ، بين الحياة والموت
سمع الفتية صوت أنينه وهم يلعبون وقت الشروق، ذهبوا ليتفقدوه وهالهم ما رأوا، وفروا ذعراً مستنجدين بالكبار
يقول لى العم شٍحته صاحب الدكان الذى أعمل لديه أنه كان واحد من الفتية اللذين وجدوا الشيخ صالح،
.. وأنهم إعتقدوا أنه جنى يسكن الخرابة القابعة فى أطراف الحى
أنقذ رجال الحى الشاب الذى كان فاقداً للوعى بسبب الإعياءالشديد،كان يبدوا عليه أثار ضرب مبرح
كان مغطا بالدم الجاف المتخثر،متشرباً برائحة القمامه التى كان ملقى فيها، وكان يبدو أنه ملقى هناك منذ أيام
على الرغم من هيئته المروعه، إلا أن الشيخ صالح كان يرتدى ملابس تدل على أنه لا ينتمى للطبقة الشعبيه
فهو و كما أنه ليس إبناً لحينا، فهو ليس حتى من أبناء الأحياء المجاورة..
يقولون أن الشيخ صالح ظل فاقداً للوعى لأياما طوال.. وأن الحاج طه العطار هو من تولى تطبيبة والعناية به فى بيته
الحاج طه العطار رحمه الله، كان إمام الزاوية، كان شيخاً أزهريا طيب السيرة ميسور الحال
وكان مخضرما ، محبوباً، و عزيزاً فى حينا..
يقولون أن الشيخ صالح كان كطفل صغير عندما أفاق، أبيض السريرة، فارغ الذهن.. كطفل صغير لا يفقه شيئ
لا يعرف من هو، من أين أتى، وكيف..
زاد ذلك من مخاوف أهالى الحى البسطاء،
حيث إعتقد غالبيتهم أنه إما جنى، أو مسحور
بينما ذهب البعض الأخر إلى انه مجرم أو مُوتور يرغب فى الإحتماء بهم
وفى كلا الحالتين لم يكن الشيخ صالح مرحباً به فى حينا..
لكن كلمة الحاج طه العطار لم تكن لتُرد من اهالى الحى أبداً..
قرر الحاج العطار أن لا يتخلى عن الشاب، و تغمده بعنايته، وسماه صالحاً.. وعمد على تنفيذ ذلك
على يد الحاج العطار أصبح الشاب صالحا، علمه كما يتعلم الصغار
علمه الصلاة، والصيام،وأركان الإسلام وأحكامه
و علمه القرأة والكتابة،وحفظه كتاب الله
كان الشيخ صالح ذكياً، سريع الحفظ، فطن البديهه.. فتعلم سريعاً
وكان له قلب أبيض نقى، كقلب طفل .. لذلك سرعان ما أحبه أهالى الحى اللذين كانوا يتخوفون منه
عاش الشيخ صالح فى بيت الحاج طه بضع سنوات..
إنتقل بعدها للعيش فى زاوية الحى، بنأً على رغبته التى لم يراجعه فيها الحاج العطار
ومنذ ذلك الحين والشيخ صالح قائم على أمور المسجد ومقيم فيه
منحه أهالى الحى بعدها لقب الشيخ، خصوصا بعدما أصبح إماما للمسجد فى غياب الحاج العطار، ومُحفظاً للصبيان
بعد وفاة الحاج العطار، زادت محبة أهالى الحى للشيخ صالح.. وأصبحت هيبته ومكانته من هيبة الحاج الراحل
يقولون أن العطار أوصى للشيخ صالح بجزء من ميراثه
وان الشيخ صالح رفض ذلك، وعند إصرار أهل المرحوم على تنفيذ وصيته.. لاّن لهم
ثم عمد إلى تلك الأموال فأنفقها على الزاوية.. ووزعها كلها فى أوجه الخير حتى لم يُبقى معه مليما
كان الشيخ صالح زاهداً ورعاً، قليل الكلام، كثير الفعل، باشاً
لم يشارك فى مجلس من مجالس السمر أو اللهو فى حينا ولم يكن له بغير العطار صله ، فلم يُعرف له صاحب بعده
يقولون أيضاُ أنه رفض أن يتزوج، حتى وأنه رفض أن يتزوج بعروس ندبها له الحاج العطار نفسه
لذلك ظل الشيخ الصالح على الرغم من محبة الجميع له، غريباً فينا
لا أصل ولا نسب ولا ذُرية
بسبب ظروف ووفاة أمى إضطررت لترك الحى القديم، وأستأجرت شقة فى المدينة الصاخبة.. ولكنى أبداً ما نسيت شيخى الصالح
وكنت أزوره من وقت لأخر.. لم أكن ائنس بحياتى بحديث كما أئنس معه
فكلامه أبداً لم يكن لغوا ولا لهواً، ومع ذلك كان أشد لذه من أحاديث السمر
كانت كلما ضاقت بى السبل، ذهبت لشيخى الصالح، أُلقى بنفسى وهمى لديه، فلا أرحل إلا وقد زال همى،وفُرج كربى،وأُتلج صدرى
ذهبت الى حينا شوقاُ لشخى الصالح، ولكنى لم أجده فى الزاوية كعهده،
إنه لم يبرحها منذ 10 سنوات
..
إنتفض قلبى .. وأختلج صدرى نغز موجع.. ولم أدرى الا ودموعى تنهمر
هل يُعقل أ يكون قد حدث ما يجول بخاطرى، أهكذا يا شيخ صالح..
ولما لم يستدعينى أحد..
لقد أوصى بأن أكون هناك.. فى غًسله..وأن أحضر زفته..
نعم هكذا كان يسمى جنازته "زفه"ثم يذرف دمعتين ويدعوا الله بإخلاص أن تكون زفته الى لقاءه راضيا ..
لقد أوصانى.. وأن أضعه بيدى فى قبره،و أقف عند راسه و ألقنه ، وأن لا أبرح حتى أدعوا و أختم اجزاءا من القران..
لا يُعقل أن تكون رحلت هكذا يا شيخى العزيز
كنت أبكى و تلك الخواطر تجول برأسى عندما هزنى أحدهم
كان العم شحته، صاحب الدكان.. أخذ يسألنى عن حالى .. وتعجب لما رأى دموعى
لم أستمع لكلمة مما قال ، فقط سألته متى توفى الشيخ صالح وكيف؟
لم يمُت بعد، وهو بالمناسبة ليس صالحاً"..
هالتنى الكلمات التى خرجت من فم العم شحته
وهممت بوكزه..لولا كظمت غيظى.. وسألته مستنكراً، ماذا؟، كيف؟
قال لى العم شحته أن الشيخ لم يمت ولكن رجال الشرطه جاؤا للقبض عليه، هى قصة يطول شرحها
ولكن علم الجميع أن شيخنا الصالح كان من قبل أن يأتى لحينا مجرم
مًجرم هارب!!
قاتل، سارق،بل و أنه لم يترك بابا من أبواب الكبائر الا وقد أتاها
تعرف عليه أحد رجال الشرطه الكبار والذى كان بالقرب من حينا وجاء للصلاة فى الزاوية القريبه
هناك ألتقى الشيخ، ولم تكن ملامح الشيخ بعيده عن ذهن الرجل الذى أخذ ينفض غبار الزمن بالسؤال عن الشيخ صالح والتقصى عنه
وأخيراً وصل الى حقيقته
لقد كان الشيخ صالح قاتل صديق ذلك الشرطى، فى مطاردتهم الأخيرة معه قبل أن يفقدوا أثره لمدة 20 عاماُ أو يزيد
لقد عاهد ذلك الشرطى، زوجة صديقة المكلومه لمقتل زوجها.. بأن يقبض على ذلك المجرم الذى يتّم أطفالها وسرق صديق عمره!
كان للقصة تفاصيل كثيرة، لم أشأ أن أستمع الى أى منها..
على الرغم أن قصة الشيخ صالح أصبحت علكه تلوكها ألسنه أبناء الحى ليلا ونهارا .. سرا وجهارا
تأكدت من صدق القصة بنفسى
ربما كانت وفاة الشيخ خبراًأفضل مما عرفته عنه.. هذا ما كان يجول بخاطرى يومها
أمضيت يوماً بعدها شاردأفكر، كنت شديد الحيرة
ماكان يشغل بالى كثيراً.. على ما سيحاسب الله الشيخ صالح؟
على نصف عمره الذى قضاه زاهدا، عابدا، ورعا
أم على نصف عمره الذى قضاة مجرما، مفسداً فى الأرض، أتيا للكبائر!!
هنا تذكرت كلمات كان دائما ما يرددها شيخى الصالح، كلما ذكر لسانى سيرة غيرى
يا بنى دع الخلق للخالق، لا تنشغل بما لست مخلوقاً له عن ما خُلقت لأجله..
ان حساب العباد لرب العباد الذى هو أرحم من العباد
و يردد قولة تعالى: "إن الينا إيابهم، ثم إن علينا حسابه"..
صدقت يا شيخى الصالح
وددت لحظتها أن أقبل اليدان اللتانى ربتا قلبى.. ولكن لم أُمهل
لقد توفى شيخى الصالح،
توفى ليحاسبه رب العباد الذى هو أرحم من العباد قبل أن يحاسبه العباد
وفقنى الله لشهود غُسله، وزفته،ووقفت عند رأسه ألقنه و اودعه،و مارحلت الا بعد ان أنسته بختمة من كتاب الله كما أوصانى
رحم الله شيخى الصالح